فصل: فصل في معاني السورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو عمرو الداني:

سورة الصف مدنية هذا قول قتادة وقال ابن عباس ومجاهد وعطاء هي مكية ولا نظير لها في عددها.
وكلمها مائتان وإحدى وعشرون كلمة.
وحروفها تسع مئة وستة وعشرون حرفا.
وهي أربع عشرة آية ليس فيها اختلاف.
وفيها مما يشبه الفواصل موضع واحد وهو قوله تعالى: {وفتح قريب}.

.ورؤوس الآي:

{الحكيم}.
1- {تفعلون}.
2- {تفعلون}.
3- {مرصوص}.
4- {الفاسقين}.
5- {مبين}.
6- {الظالمين}.
7- {الكافرون}.
8- {المشركون}.
9- {أليم}.
10- {تعملون}.
11- {العظيم}.
12- {المؤمنين}.
13- {ظاهرين}. اهـ.

.فصل في معاني السورة كاملة:

.قال المراغي:

سورة الصف:
{لِمَ} أي لأي شيء تقولون قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لم تفعلوا؟ والمراد بذلك التأنيب والتوبيخ على صدور هذا الكذب منهم، {كبر}: أي عظم، والمقت: أشد البغض وأعظمه، ورجل مقيت وممقوت إذا كان يبغضه كل أحد، والمرصوص: المحكم، قال المبرد: تقول رصصت البناء إذا لاءمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
{تؤذونني}: أي تخالفون أمري بترك القتال، {زاغوا}: أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، {أزاغ اللّه قلوبهم}: أي صرفها عن قبول الحق، {الفاسقين}: أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية، و{أحمد}: من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال حسان:
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ** والطيّبون على المبارك أحمد

الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع للّه عز وجل، والمراد من إبطال نور اللّه بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام، بنحو قولهم هذا سحر مفترى، {واللّه متم نوره}: أي واللّه متم الحق ومبلغه غايته، {بالهدى}: أي بالقرآن، {ودين الحق}: أي بالملة السمحة، {ليظهره}: أي ليعليه، {على الدين كله}: أي على سائر الأديان.
التجارة هنا: ما يقدمه المرء من عمل صالح، لينال به الثواب كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} طيبة: أي طاهرة مستلذة، {جنات عدن}: أي بساتين إقامة وخلود، {قريب}: أي عاجل وهو فتح مكة، وحواريّ الرجل: صفيه وخليله، وأنصار اللّه: أي الناصرون لدينه، {فأيدنا}: أي قوّينا وساعدنا، {على عدوهم}: أي الكفار، {ظاهرين}: أي غالبين. اهـ.. باختصار.

.قال الفراء:

سورة الصف:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
قوله عز وجل: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ...}.
كان المسلمون يقولون: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لأتيناه، ولو ذهبَتْ فيه أنفسنا وأموالنا، فلما كانت وقعة أحد فتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شُجّ وكسرت رِباعِيتَهُ فقال: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} لذلك. ثم قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولواْ...} فأن في موضع رفع لأن {كبر} بمنزلة قولك: بئس رجلًا أخوك، وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عند الله}: أضمر في {كبر} اسما يكون مرفوعا. وأما قوله: {كَبُرَتْ كَلمة} فإن الحسن قرأها رفعا، لأنه لم يضمر شيئا، وجعل الفعل للكلمة، ومن نصب أضمر في كبرت اسما ينوى به الرفع.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}
وقوله: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ...} بالرصاص، حثهم على القتال.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
وقوله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ...}.
قرأها يحيى أو الأعمش شك الفراء: {والله متمُّ نورِه} بالإضافة، ونونها أهل الحجاز: {متمٌّ نورَه}. وكلٌّ صواب.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقوله: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ...} {تُؤْمِنُونَ...}.
وفي قراءة عبد الله: {آمنوا}، فلو قيل في قراءتنا: {أن تؤمنوا}؛ لأنه ترجمة للتجارة. وإذا فسرْت الاسم الماضي بفعل جاز فيه أن وطرحها؛ تقول للرجل: هل لك في خير تقوم بنا إلى المسجد فنصلى، وإن قلت: أن تقوم إلى المسجد كان صوابا. ومثله مما فسر ما قبله على وجهين قوله: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}: أنَّا، وإنا، فمن قال: أنا ها هنا فهو الذي يدخل (أَنْ) في يقوم، ومن قال: إنا فهو الذي يلقى (أنْ) من تقوم، ومثله: {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا} و(إِنَّا).
{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
وقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ...}.
جزمت في قراءتنا في هل. وفي قراءة عبد الله للأَمر الظاهر، لقوله: {آمِنوا}، وتأويل: هل أدلكم أمر أيضًا في المعنى، كقولك للرجل: هل أنت ساكت؟ معناه: اسكت، والله أعلم.
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا...}.
في موضع رفع؛ أي: ولكم أخرى في العاجل مع ثواب الآخرة، ثم قال: {نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}: مفسّر للأخرى، ولو كان نصرا من الله، لكان صوابا، ولو قيل: وآخر تحبونه يريد: الفتح، والنصر- كان صوابا.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ قال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ}.
وقوله: {كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ...}.
قرأها عاصم بن أبى النَّجود مضافا، وقرأها أهل المدينة: {أنصارًا الله}، يفردون الأنصار، ولا يضيفونها، وهى في قراءة عبد الله: {أنتم أنصار الله}. اهـ.

.قال بيان الحق الغزنوي:

سورة الصف:
{مرصوص} [4] مكتنز، ملتصق بعضه ببعض، كأنه رص بالرصاص، قال الراعي:
ما لقي البيض من الحرقوص

يفتح باب المغلق المرصوص

{وأخرى تحبونها} [13] يجوز في موضع الجر عطفًا على {تجارة}. ويجوز في موضع الرفع بتقدير ولكم تجارة أخرى. تمت سورة الصف. اهـ.

.قال الأخفش:

سورة الصف:
{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ} أي: كَبُرَ مَقْتُكُم مَقْتًا، ثم قال: {أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أَيْ: قولكم.
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
وقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} يقول: وتجارةٌ أُخْرَى [176]. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

سورة الصف مدنية كلها.
4-... {بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} أي يثبتون في القتال ولا يبرحون، فكأنهم بناء قد رص.
14- {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ}؟ أي مع اللّه.
{قال الْحَوارِيُّونَ}: شيعة عيسى عليه السلام. يقال: كانوا قصّارين يحوّرون الثياب. و(التّحوير) للثياب وغيرها: تبييضها.
{فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ}: غالبين عالين عليهم. من قولك: ظهرت على فلان، إذا علوته. وظهرت على السطح: إذا صري فوقه. اهـ.

.قال الغزنوي:

سورة الصف:
4 {مَرْصُوصٌ}: مكتنز ملتصق بعضه ببعض كأنها رصّ بالرصاص.
12 {وَأُخْرى تُحِبُّونَها} جرّ الموضع عطفا على {تِجارَةٍ} أو رفع بتقدير: ولكم تجارة أخرى. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الصّف:
عدد 23 و109- 61.
نزلت بالمدينة بعد سورة التغابن.
وهي أربع عشرة آية.
ومائتان وإحدى وعشرون كلمة، وتسعمائة حرف.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
وبينا السّور المبدوءة بما بدئت به أول سورة الحديد المارة.
ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
ولا مثلها في عدد الآي.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} من شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع الجانب القاهر كلّ شيء على تسبيحه وتنزيهه طوعا أو كرها قالا أو حالا، راجع الآية 45 من سورة الإسراء وأول سورة الحديد المارة {الْحَكِيمُ} (1) بأفعاله وأوامره ونواهيه فلا يخلق إلّا عن حكمه، ولا يأمر إلّا بحكمة، ولا يفعل إلّا لحكمة، قال عبد اللّه بن سلام قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملناها، وكانت نزلت آية الجهاد العاشرة من سورة التحريم المارة، وتباطأ بعضهم عنه، وكان يتمنى نزول الأمر بالجهاد، فأنزل الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقولوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)} وكان من عادة العرب الّذين هم عرب يفعلون ولا يقولون فيقضون حوائج المحتاجين ودين المدينين ونصرة المظلومين ولا يدرى بهم، ثم قلت المروءة عند بعضهم فصاروا يفعلون ويقولون، ثم تدانوا وتخاسسوا فصاروا لا يقولون ولا يفعلون، ثم تدنت نفوسهم ورذلت فصاروا يقولون ولا يفعلون، فذمهم اللّه تعالى في هذه الآية وأنبهم بأن القول بلا فعل مما يوقع العبد في غضب اللّه ويبعده عنه، ومن هذا القبيل من يعد بشيء وبقوله ولا يفعله، ومن يتعهد ولا يوفي، ويحلف ويخلف، ويواثق وينكث.
ثم بين جل جلاله العمل الذي يحب اللّه فاعله عند لزومه أكثر من غيره، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} إعلاء لكلمته وابتغاء مرضاته {صَفًّا} تجاه أعدائه لا يزولون ولا يروغون عن أماكنهم إلّا للتقدم ليكيدوا عدوهم، فتراهم في تضامنهم وتلاحقهم ومتانتهم في صفوف الحرب {كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} (4) بعضه ببعض لا ترى فيهم فرجة تمكن العدو من الدّخول فيها بينهم، أو يجعل بسببها خللا في صفوفهم، وكان التراص في ذلك الزمن مطلوبا لأن من الفرسان من يقحم بفرسه فيمزّق الصّف المخلل والذي فيه فرجة فيفتك فيه بما أوتي من عزم وحزم فيفرقه ويقع الرّعب في قلوب الآخرين فينصرون، والتراص باب من أبواب الحرب في زمن الأصحاب فمن بعدهم، أما الآن وقد أحدثت الصّواعق والقاذفات والدّبابات فقد يكون في مكان دون مكان بحسب قوة العدو وآلاته وعدده، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن اللّه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان، وهو يشير إلى التحذير من الهزيمة، لأنه من الكبائر المهلكة ولهذا يجازى عليها بالإعدام ولعذاب الآخرة أشد وأمر، راجع الآية 94 من سورة البقرة والآية 176 من آل عمران والآية 15 فما بعدها من سورة الأنفال المارات.
قال تعالى: {وَ} أذكر لقومك يا سيد الرّسل {إِذْ قال مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} بتعنتكم وتطاولكم على اللّه إذ تقولون أرنا اللّه جهرة ولن نصبر على طعام واحد وتتهمونني بأني آذر، وتحرضون الباغية عليّ، وتنسبون لي قتل هارون أخي وعضيدي على إرشادكم كما مر في الآيتين 56 و62 من الأحزاب المارتين، وتنكرون رسالتي {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} خاصة وطاعتي عليكم واجبة تعظيما لمن أرسلني وإن الأنبياء مبرّءون من العيوب ومعصومون بعصمة اللّه وهم بشر مثلكم لا قدرة لهم على إجابة ما تقترحونه عليهم إلّا بإذن اللّه {فَلَمَّا زاغُوا} عن الحق وأسروا على عنادهم {أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عن الهداية وخذلهم وحرمهم من نور الإيمان وأضلهم عن اتباعه وأعماهم عن سبيله فخرجوا عن السّبيل إلى السّبل فضلوا وأضلوا وخسروا، راجع الآية 152 من الأنعام {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} (5) الخارجين عن طاعته.
تنبه هذه الآية إلى أن أذى الرّسل يؤدي إلى الكفر ونزع نور الإيمان بحيث لا يبقى فيه قابلية للهداية {وَ} أذكر لقومك يا أكمل الرّسل أيضا {إِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} بدلالة الوصف الموجود لي في توراتكم وإخبار الأنبياء قبلي إني آتيكم رسولا من قبل اللّه وقد بعثت لكم {مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ} بالإنجيل الذي أنزله اللّه علي وخفف به بعض ما في التوراة من التشديد راجع الآية 50 من آل عمران المارة تقف على هذا التخفيف {وَ} كما بشرت بي الأنبياء أممها، فقد جئت {مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} قال أبو موسى في حديث طويل «سمعت النّجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول اللّه، وأنه الذي بشّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر النّاس لأتيته حتى أحمل نعليه»- أخرجه أبو داود- راجع تفسير الآية 199 من آل عمران المارة تعرف النّجاشي وعقيدته وصلاة الرّسول عليه.
وقال عبد اللّه بن سلام: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم، فقال أبو داود والمدني قد بقي في البيت موضع قبر- أخرجه الترمذي- أي بقي في الحجرة المدفون بها حضرة الرّسول وصاحبيه موضع ليدفن فيه عيسى بن مريم راجع الآية 62 من سورة الزخرف ج 2 وفي اسم أحمد إشارة إلى أن الأنبياء كلهم حامدون للّه ومحمد وأحمدهم له، وإن الأنبياء كلهم محمودون، ومحمد أكثرهم حمدا روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال قال صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس على قدمي يوم القيامة، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي».
{فَلَمَّا جاءَهُمْ} الرسول المبشر به من قبل موسى وعيسى بالبينات {قالوا} أي المرسل إليهم {هذا} الذي جاء به محمد من الآيات {سِحْرٌ مُبِينٌ} (7) ظاهر لا يخفى على أحد، فقد كذبوا وافتروا على الرّسول من اتهامهم له بالسحر، وعلى المرسل من كونه غير نبي، والافتراء على الرّسل افتراء على المرسل، ولهذا يقول جل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ} فيقول هذا سحر يدل التصديق والإجابة إليه وهذا كذب يدل الاعتراف به، فمثل هذا لا أظلم منه البتة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)} أنفسهم بالإنكار والجحود عقوبة لهم {يُرِيدُونَ} هؤلاء الظّلمة بافترائهم هذا {لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ} بأقوالهم المجردة عن الصّدق {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} بإظهاره على غيره وعلو كلمة الإسلام على سائر الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (8) رغما عنهم شاءوا أم أبو {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فلا يبقى على وجه الأرض دين إلّا وقد نسخ به وغلب أهله من قبل الإسلام لقوة دليله وعظيم برهانه وجليل سلطانه {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (9) ذلك، فإنه ظاهر عليهم.
ونظير هاتين الآيتين الآيتان 23 و24 من سورة التوبة الآتية.
وهذا سيكون إن شاء اللّه، ويتم بنزول عيسى عليه السلام إذ يحكم النّاس ويدينهم بدين محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبقى إذ ذاك دين على وجه الأرض يعبد اللّه فيه إلّا دين الإسلام، لأن الأديان السّائرة تضمحل وينضم بعض أهلها لدين الإسلام، وكان هذا زمن الرّسول ومن بعده وإلى الآن، ثم تجتمع الكلمة على الإسلام فقط إن شاء اللّه فلا يبقى إلّا مؤمن وكافر.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (10) كما ينجي التاجر الرّابح من الفقر ويغنيه غنى ما بعده غنى، وكأنهم قالوا ما هي هذه التجارة؟ فأنزل اللّه قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ} الإيمان والجهاد هما أحب الأعمال إلى اللّه تعالى التي تسألون عنها، وأكثر ثوابا من جميع الأعمال فهي التجارة الرّابحة {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (11) ما ينتج عنها لأن نتيجة الإيمان دخول الجنان ورضا الرّحمن، ونتيجة الجهاد علو الشّأن ورفعة المجد، وهذا أفضل من ربح المال مع بقاء النّفس ذليلة حقيرة بسبب تسلط عدوها عليها، لأن النّفس الأبية التي تحب الموت في سبيل عزها لتوهب لها الحياة الطّيبة التي هي أحسن من كلّ شيء، والفعلان بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا وجوابهما فعل يغفر الآتي، أي إذا فعلتم هذا فإنه تعالى {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الدنيوية ويعزّكم في دنياكم لاختياركم طريق العز {وَيُدْخِلْكُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (12) لأن فيه خير الدّنيا والآخرة فلا أعظم فوزا منه لأنه مما يعمل العاقل له في دنياه ليناله في عقباه {وَ} تجارة {أُخْرى تُحِبُّونَها} وهي في الدّنيا فقط {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} على أعدائكم {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (13) لبلاد أعدائكم واستيلائكم عليها واغتنام ما لدى أهلها، وقد كان هذا والحمد للّه في صدر الإسلام وبعده، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشّهوات فحرموا تلك الفتوحات والغنائم وملاذ النّصر والظّفر، لإضاعتهم أمر دينهم وتفرق كلمتهم وتكالبهم على الدّنيا وخوفهم من الموت، وعسى أن يردهم اللّه لاقتفاء آثار أوائلهم فينالوا ما نالوه ويذوقوا طعم العز والظّفر.
ونظير هذه الآيات الآية 25 من سورة الأنفال المارة فما بعدها، وقد رتب فيها الحياة على الجهاد، زرع اللّه في قلوبنا حبه لإعلاء كلمته، وجعلنا من المحبين لدعوته المقصودين بفضله، وما ذلك على اللّه بعزيز {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر والفتوح يا سيد الرّسل في هذه الدّنيا والفوز والسّعادة في العقبى ماداموا مؤمنين حقا، وإنما سمى الجهاد تجارة لما فيه من الرّبح العظيم والعزّ في الدّنيا ورضا اللّه والجنّة في الآخرة، وهذه تبشر المؤمنين حال نزولها بقرب فتح مكة إنجازا لوعد اللّه به لهم، وقد كان ذلك، وفيها بشارة عامة لكل مؤمن يتصف بما ذكره اللّه في هذه الآية بالنصر والفوز على أعدائه في كلّ مكان وزمان.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ} لنبيكم وأجيبوا دعوته ولبوا كلامه وابذلوا شيئكم له {كَما قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ} أصحابه الّذين آمنوا به {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ} على إعلاء كلمته وإظهار دينه وخلاص عباده مما يشينهم {قال الْحَوارِيُّونَ} ملبّين دعوته رغبة بما وعدهم اللّه على لسانه {نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ} جنوده المجيبون لأمره المؤدون لشعائره المعينون له على أعدائه، أي كونوا أنتم يا أمة محمد مثل هؤلاء الأبرار لتفوزوا بخير الدّنيا والآخرة، فجاهدوا بأموالكم وأنفسكم مع إمامكم مع سلطانكم مع أميركم، ولا تهنوا وقد كنتم الأعلون {فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ} بالسيد عيسى عليه السلام وأجابت دعوته وجاهدت في سبيل اللّه فغنمت، إذ نشرت دعوته بعد رفعه بين النّاس، فآمن بهم خلق كثير فعلى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا ويقوموا دائما ببث دعوته والسّعي على طريقته ليفوزوا ببغيتهم ويظفروا بأعدائهم، فتعلو كلمتهم فيحوزون خير الدّنيا والآخرة، ولا يكونون لا سمح اللّه مثل المعنيين بقوله جل قوله: {وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ} به فلم تجب دعوته ولم تؤمن به ونصبت له العداء من أجل تكليفهم لهدى اللّه ونفعهم بآلائه فخسرت وخابت.
فكونوا يا أمة محمد من الطّائفة الأولى التي ملأت الأرض لتعلو كلمتهم ويرفع مجدكم فتدخلوا في قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ} وعدو ربهم {فَأَصْبَحُوا} أولئك المؤمنون {ظاهِرِينَ} (14) على الكافرين اللّهم أيد المؤمنين على الكافرين برحمتك يا أرحم الرّاحمين. هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد للّه رب العالمين. اهـ.